نموذج جنين- إعادة هندسة أمنية واقتصادية أم فصل عنصري متجدد؟

تجدر الإشارة في البداية إلى أن مصطلح "نموذج جنين" ليس وليد اللحظة، ولا يرتبط حصريًا بأهداف العملية العسكرية الإسرائيلية الراهنة، التي شارفت على شهرها الثالث. لفهم النموذج الحالي، الذي يبدو أكثر تعقيدًا وشمولية، يجب أولًا استيعاب النموذج الأول.
ظهرت تسمية "نموذج جنين" للمرة الأولى في عام 2010، من خلال برنامج تعاوني بين محافظ جنين آنذاك، قدورة موسى، الذي كان يُعد شخصية نافذة في المدينة، ورئيس مجلس مستوطنات جلبوع المحيطة بجنين، داني عطار، وذلك تحت إشراف ممثل اللجنة الرباعية الدولية، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير.
آنذاك، كان الهدف من هذا النموذج هو تغيير صورة جنين، التي كانت تُعرف إسرائيليًا بـ "عش الدبابير"؛ نظرًا لكثافة أنشطة المقاومة خلال انتفاضة الأقصى، ومعركة مخيم جنين، والعمليات العسكرية المتعددة التي انطلقت منها. كان الهدف الأساسي هو تحويل جنين إلى نموذج للتعاون الأمني الوثيق مع الاحتلال، مقابل تحويلها إلى مركز اقتصادي واعد، كجزء من خطة السلام الاقتصادي التي روّج لها اليمين الإسرائيلي في تلك الفترة.
حقق النموذج نجاحًا ملحوظًا واستمر قرابة عقد من الزمن، حتى أصبحت جنين من أكثر مدن الضفة الغربية استقرارًا وهدوءًا. كان لفتح معبر الجلمة باتجاه أراضي الـ 48 دور كبير في تعزيز التنمية الاقتصادية. تباهى ضباط إسرائيليون رفيعو المستوى بقدرتهم على التجول في جنين بأمان تام، وبمستوى التنسيق الأمني المتقدم مع السلطة الفلسطينية. أصبح نموذج جنين مثالًا يحتذى به، وتم تطبيقه لاحقًا في مدينة نابلس.
على الرغم من اندلاع هبة القدس عام 2015 وتصاعد العمليات الفردية، مثل الطعن وإطلاق النار، ظل نموذج جنين صامدًا نسبيًا مقارنة بالمدن الأخرى في الضفة الغربية، مما دفع المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين إلى التباهي بمتانة النموذج الذي أرسوه في جنين.
استمر هذا النموذج في الصمود حتى معركة "سيف القدس" عام 2021، حين أطلقت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة صواريخ على مسيرة الأعلام في القدس. أعقبت ذلك معركة اعتبرت نصرًا واضحًا للمقاومة، وبرز خلالها جيل شاب من رحم المسيرات التي عمت أرجاء الضفة الغربية، بما فيها جنين، كاسرًا حالة الصمت التي طالت لسنوات. تطورت المسيرات إلى مواجهات، ثم إلى مجموعات عمل عسكري، وبدأت ثقافة إحياء ذكرى معركة مخيم جنين عام 2002، حتى وصلت الأمور إلى ذروتها بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حيث شهدت هذه المرحلة انهيارًا كاملًا للنموذج.
النموذج الثاني
خلال حوار موسع على القناة الإسرائيلية الرابعة عشرة قبل نحو شهر، تناول الإعلام العبري الأحداث الجارية في مدينة ومخيم جنين شمال الضفة الغربية، وأهداف الحكومة الإسرائيلية من هذه العملية العسكرية وتداعياتها المحتملة.
عرض مقدم البرنامج مقاطع فيديو تظهر حملات الاعتقال المكثفة التي تنفذها الأجهزة الأمنية الفلسطينية، في الوقت الذي تشن فيه قوات الاحتلال عملية عسكرية واسعة النطاق وغير مسبوقة، معلقًا: "يجب أن يعلم المجتمع الإسرائيلي أن السلطة الفلسطينية تقوم بدور جيد في الحفاظ على الأمن في الضفة الغربية". قاطعه المحلل العسكري مؤكدًا أن ذلك غير كافٍ، وقدم شرحًا حول الهدف من العملية العسكرية المستمرة، قائلًا: "إن إسرائيل لا تقوم بمجرد عملية عسكرية أمنية في جنين، بل تختبر نموذجًا جديدًا لحكم الضفة الغربية، يتم تطويره تدريجيًا، وسيستمر ذلك حتى نهاية العام الجاري، ومن ثم سيتم تعميمه على باقي مدن الضفة الغربية".
وفيما يتعلق بالعلاقة مع السلطة الفلسطينية، أوضح المحلل أن "الأجهزة الأمنية الفلسطينية تعتقل العديد من المطلوبين، ولكن هذا غير كافٍ. جزء من أهداف العملية العسكرية في جنين هو إعادة صياغة العلاقة مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، بحيث تفكر بنفس الطريقة التي نفكر بها، بل وتسبقنا بعشر خطوات".
يتضح من ذلك مدى الابتزاز الأمني المصاحب لابتزاز اقتصادي كبير من خلال احتجاز أموال المقاصة والضرائب، وذلك لمقايضة هذا الأمر بمبدأ السماح ببقاء السلطة في ظل مرحلة الحسم التاريخي للضفة الغربية من وجهة نظر إسرائيل.
أما عن سبب اختيار جنين لتطبيق هذا النموذج دون غيرها من مدن الضفة، فالسبب الرئيسي ليس الوضع الأمني في المخيم والقضاء عليه، بل تم إبراز سبب آخر، وهو أن جنين منطقة لا يوجد فيها احتكاك مباشر مع المستوطنات، على عكس باقي مدن الضفة الغربية. وبالتالي، تم اختيارها لكي يتم تطوير النموذج في منطقة لا يكون لتداعيات اختباره وتطويره أي مخاطر مباشرة على الإسرائيليين، وبالتالي سهولة احتواء ردود الفعل في مرحلة اختبار النموذج.
إعادة هندسة المكان والإنسان
بالتعمق في تفاصيل ما تقوم به إسرائيل في جنين منذ بداية عمليتها العسكرية قبل شهرين، تتضح خطة مُحكمة لإعادة تشكيل الإنسان والمكان وعلاقات القوة بشكل ممنهج.
تتمثل الخطوة الأولى في إنهاء وجود مكان يُدعى مخيم جنين، حيث تقوم قوات الاحتلال بهدوء بعمليات هدم وإعادة تشكيل للمكان وفق مخطط هيكلي وهندسي يقسم المخيم إلى أحياء مطابقة لأحياء المدينة من حيث الشوارع وشكل المباني. عمليات الهدم لا تتم بشكل عشوائي، بل وفقًا لمخطط مكاني يمتد من حيّ إلى حيّ في المخيم، مع توسيع الشوارع، وتجهيز الطرق بمعدات هندسية. ستكون النتيجة النهائية إعادة تشكيل المخيم ليصبح حيًا سكنيًا ملحقًا بالمدينة، مع نزع صفة المخيم عنه، والسماح لنصف سكانه بالعودة إليه، وفقًا للمخطط العمراني الجديد.
يجري العمل حاليًا على تغيير معالم أحياء مطلة على مدينة جنين في منطقة الجابريات، بهدف إقامة ثلاثة مراكز عسكرية إسرائيلية دائمة تتحكم في المدينة بشكل كامل، وسيتم تحويلها لاحقًا إلى مراكز لإدارة المدينة.
تبذل قوات الاحتلال محاولات لتطبيع العلاقات مع الهيئات المدنية ورجال الأعمال لإرساء دعائم النموذج الجديد، مع الحفاظ على التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية في أعلى مستوياته، دون منحها أدوارًا أخرى.
هناك سبب آخر غير أمني يجعل منظومة الحكم في إسرائيل متمسكة بأهمية الحفاظ على وجود السلطة الفلسطينية بعد إعادة هيكلتها، وهو تجنب الانزلاق بعد تطبيق النموذج إلى فكرة الدولة الواحدة ثنائية القومية. فوجود كيان فلسطيني بأي مسمى يحمي من التورط في نموذج الدولة الواحدة والوقوع في اتهامات الفصل العنصري.
تحولت جنين في الشهرين الأخيرين إلى بيئة طاردة للحياة، حتى أن العديد من تجارها افتتحوا متاجر بديلة في القرى المجاورة، وبدأت مرحلة نزوح تدريجي، بعضه قسري، كما حدث في المخيم وبعض الأحياء المجاورة، وبعضه طوعي نتيجة صعوبة الحياة، خاصة على المستوى التجاري والتعليمي وقطاع الخدمات.
نموذج الإمارات السبع لكيدار
يتزامن اختبار نموذج جنين بحُلّته الجديدة مع تسريع تطبيق نموذج الإمارات السبع للخبير الإسرائيلي اليميني مردخاي كيدار، وهو ليس مجرد خبير عادي، بل هو جزء من مراكز البحث والتفكير الرئيسية في إسرائيل.
يقوم النموذج على تقسيم الضفة الغربية إلى سبعة معازل منفصلة، بحيث تتحول كل مدينة إلى كيان إداري وسياسي مستقل له مرجعية عشائرية وإدارية تتعامل معها إسرائيل.
يمكن القول إن إسرائيل على أعتاب الانتهاء من هندسة الجغرافيا بالكامل لتطبيق هذا النموذج. فخلال العقود الماضية، وبتسارع كبير في السنوات الأخيرة، تم تشكيل الأحزمة الاستيطانية والاستيطان الرعوي والطرق الالتفافية وتوزيع المعسكرات بشكل فَصَلَ المدن الفلسطينية في الضفة الغربية عن بعضها البعض.
فاليوم لا يوجد أي تواصل جغرافي بين أي مدينتين في الضفة، ويقتصر الوجود الفلسطيني الفعلي على ما يقارب 10% فقط من مساحة الضفة الغربية التي تشكل 22% من مساحة أرض فلسطين التاريخية. كما عمدت مؤخرًا إلى زيادة الحواجز العسكرية لتشمل جميع مداخل ومخارج المدن والبلدات والمحافظات في هذه المساحات الضيقة، حيث نستطيع القول إن خطة كيدار قد تم الانتهاء من تطبيقها جغرافيًا بالكامل.
يبقى الشق الديموغرافي وإعادة تشكيل هيئات الحكم، والتي يشكل نموذج جنين الثاني نواة لها، فيما يتضمن التحرك الإسرائيلي تطوير أشكال مختلفة من الحكم المباشر للفلسطينيين كعلاقات الأمن والاقتصاد التي تدعي نجاحها في مدينة الخليل.
الحسم التاريخي وحتمية الفصل العنصري
تتجسد أركان نموذج جنين الثاني، الذي سيتم تعميمه على باقي الضفة الغربية، في النقاط التالية:
- أولًا: إنهاء وجود المخيمات بشكل كامل، وتغيير هيكلها المكاني لتحويلها إلى قرى، وإلغاء مصطلح "المخيمات"، وإعادة توزيع السكان اللاجئين في المدن والقرى.
- ثانيًا: إعادة هندسة السلطة الفلسطينية بشقيها المدني والأمني لتكون أكثر توافقًا مع نموذج كيدار.
- ثالثًا: الحكم العسكري المباشر للفلسطينيين بأدوات متجددة، وإعادة إحياء نموذج روابط القرى، ولكن بواجهات مدنية واقتصادية مستحدثة كمقدمة للإعلان الرسمي عن ضم الضفة الغربية.
لكن الأمر الذي لا تستطيع إسرائيل تجنبه في كل ذلك، هو أنها دخلت في مستنقع الفصل العنصري بنموذج غير مسبوق على المستوى الدولي، وستتورط في السيناريو الذي تخشاه أكثر من غيره، وهو نموذج الدولة الواحدة. بينما لا يملك الفلسطينيون خيارًا سوى تطوير أساليب صمودهم ومقاومتهم وثباتهم في أرضهم، وعدم الاستسلام لمخططات التهجير، كأدوات لا غنى عنها لإفشال المرحلة الأصعب في تاريخ الصراع مع الاحتلال.